الأحد، 6 مارس 2011

طعنات في كبد النسيان...



جسد الحكاية المنهك .. ينتفض عن مشاهد دامعة ..سقطت سهوا أو..عمدا من صفحاتك ياوطني...
مسطول ..تتراكم طحالب التيه على عقله الصدء..تتقادفه شوارع المدينة في زحامها العتيق المروع..يتبعثر ظله بين الأرصفة ،يتدثر زيا غريبا ومعطفا رثا قبلته أو بصقته كل الفصول المتعاقبة على جلده بملل..كشبح من قصص الليل المخيفة تلوكه ألسنة النسيان حينا ..ثم من دون نقطة بداية ينبت في مكان ما بين الأزقة كعلم ثابت من أعلامها...
يجلس القرفصاء في سكون الناسك ..يتأمل فضولي وكأنه يراني للمرة الأولى -..رغم جلوسي الصامت أمامه كل مرة- أناوله السيجارة الثالثة أو الرابعة -أرشيه ككل مرة- ..يسحبها بيد مرتعشة وشفة مزمومة ...ويلوذ برتابته ..عيوني الشاخصة إليه تستحثه ....تكلم.. - منذ أن انزلقت إلى جب الهوس بحكايات الزمن الباكي وبلغتني بعض تلابيب حكايته، يجد دوما سبيلا إلى صدي..بصمته الأسطوري أو ضوضائه الفاجرة..- حتى استنفدت كل سبله وحاصرته في زاوية باهتة من ليل منسي ...تكلم .. اليوم سأسمع الحكاية ولو بحت بالنحيب ...بالصراخ ..بالصمت المستفز ..كل أحبالك ..ولو خرجت عقيرتك عن صوابها ..تترجاني ..تهددني ..سأسمع منك الفجيعة بالجنون، بالبكاء ،بالهذيان ..سأسمعها..
يأخد نفسا عميقا من السيجارة ..يحاول اللإعتدال في قرفصائه ..ثم ..كالصفعات لفحتني أول الكلمات...
- كالخطيئة يحاولون الدوس على ..جرحي..
تتقلص حدقات العين البراقة الدوارة ..يتخد الوجه شحوبا ضبابيا مبهم ..يثبت نظره على أفق غائر..يضغط على الكلمات..
-يوم حمل أبي البندقية في وجه الظلام..وتدثر الليل مطاردا سراديبه ، يثبت الأعلام التي نكسها الليل الزاحف ويرفعها بكل فخر..- ذاك المزارع التي هجرته زراعته- لم تزكمه رائحة القبر المتربصة بكل خطواته في الجبال الغضارية المتمردة..بقدر ما زكمته رائحة بيتنا الهزيل والأفواه..أفواهنا المكشرة إليه كالخناجر تطلب ما يسدها..أمي ..أنا ..اخوتي ..كشهقة ..كجمرة في صدر أبي..
ومع جوعنا وفاقتنا حمل البندقية..النوم الجائع الآمن ..أهون عنده من النوم المتخم..بالخوف والأرق والحذر المرتعش...
على صغري تعلمت مع أبي العزف على الرشاش ..دون العاشرة بدلت كل تغاريد الدنيا..بتغريدته المجلجلة ..أعترف أنني كنت أرتجف كلما انطلق له لحن أو هش له همس...هيأتني برودة الرشاش وتعاريجه النحاسية لأكون رجلا في العاشرة أويزيد قليلا...متنازلا عن طفولة لاجدوى منها ..الظلمة تكاد تسحبنا إلى بؤبؤتها الفوضوية ..فما النفع أن أكون طفلا..
وقبل أن تضرب الرجولة عصاها في داخلي وتعلق أجراسها الفولادية القاسية على صدري...قضى أبي بالمرض السريع..قبل أن يقضي عليه عبُاد الظلام ..بل قضت عليه الغصة ..من نظرتنا المزمجرة الصامتة ..تتعلق بجبينه ..بجيوبه الفارغة..تستقبله مودعة مع كل عودة له من مطارداته الجنونية المتواصلة لعباد الظلام في الجبال..في التخوم ..في الثغور التي يحسب نفسه فاتحا لها..في الثغور التي التهت تفكيره وحياته..
غرسناه ذات يوم بارد ..دفناه في أرض بور عقرت أن تحمل بالحياة ..وألا تحيا إلا بالموت تشرب من الجسد الفاني ..والدمع المودع الباقي..
وبقينا من بعده..في الثغر دون مرابط..أنا ..أمي ..اخوتي..لم نقوى على تكاليف الرحيل ..واستصغنا مرغمين ..أن نبقى من خلف السور..نتجرع جوعنا وخوفنا ونكبتنا ..................... حتى كان ذلك اليوم..
تتوقف العين الدوارة عن دورانها ..تتعانق الأهداب معدمة دمعة متمردة..ترتجف ذقنه في حركات هائمة..صاعدة ،نازلة..يمرر راحته الخشنة على خد محمر متورم وكأن بركانا يتحضر تحت جلده..يمسك جبينه الأملس ويضغط عليه يبغي سحقه..ترتفع عيناي متابعة تنهيدة آسرة يدفعها مع دخان السيجارة .. وكأنه يدفع روحه إلى الخارج ..ويعود بحشرجة..
- ذات فجر لايرحب بالطارقين على بابه..من بين الجدران نزفوا ..من كل الجهات تمددوا ...خمسة أشباح من سدة الظلام نزلوا ..كالضباب الأسود انهالوا على البيت الهزيل..ولم تصمد بابه مع أول ركلة.. كان بينهم.... وعرفته دون أن أراه..تطاول كالمد بيننا..صدته بالأمس بندقية أبي التي انتكست..جاورنا قبل أن يعبد الظلام..ويرتل طلاسمه ..انزويت في شوكة أجزىء جسدي على تعاريجها ..حتى أصبحت جزء منها..صدتهم أمي بكلمات فوضوية لاتنتمي لأي قاموس... بين عويل ..وصراخ وسباب..امتلا فضاء البيت الضيق..قذفوها كالوئيدة ..أمام عيناي الجامدة بثوا كل قوة في بطنها الخاوي ..بسطوها كأضحية العيد...الله أكبر....كبر الجار العابد.. كأضحية العيد ..مرر المدية على جيدها ..من الوريد .............................. إلى خلف الوريد..
تتزايد سرعة أنفاسه ..يعلو صدره وينخفض في جنون كأنه ينذر بانفجار وشيك..يضغط أسنانه ..يشكل في الفراغ قبضة لو جمعت كل فولاد العالم سحقته ..يمطر الجبين عرقا هاربا من سخونة الرأس ..يصمت برهة ..يفتح فاه ..ثم يردف:
- ..وتخبطت أمي وضربت بيديها ..برجليها..بعنقها المجدوع..تنتفض كشجرة شتاء داهمتها عاصفة هوجاء..شخصت عيناي لمنظرها..انطلقت مني صرخة مدوية ..طنت أذني فلم أسمعها .. لربما انتحرت في حنجرتي ولم تخرج..شلت حركتي تماما ..تجمد الهواء حولي ..فقدت حس المكان والألوان..ودخلت في بوتقة فراغ لاأدري ..من أنا ..أو أين أنا ..وكأن صاعقة احتوتني في لونها الغامض وتفاصيلها المبهمة..
زحفت إليها...أمي....أوإ لى ما تبقى من حياتها.. قابلني نحرها الصارخ..وجهها المضرج بالدماءتندفع منه كسيل هامر من شلال متمرد..أنكرتها عيوني..أدفن رأسي في دماها ..في حشرجتها الأخيرة ..في صعود روحها المعذبة.. في نفسها ..في حضنها ..أتلوى بالدمع المتخثر لالتوائها...لاحياة ..لاضوء ...لاهواء..
وغرسناها ذات يوم قائض ..وغرست معها نفسي ..فما نفع الدنيا من دون أمي...
..انطلقت بعدها..قطعة في مهب الضياع..تأخدني الكوابيس حيث..جثة أمي دون رأس ..يد أبي المنكسة بلا بندقية..أنزوي إلى شحوب وحدتي ..في ثنايا الظلمة وتأوهات الرماد ..بعد نار ملتهبة ...وسطلت أول مرة..وتذوقت لاوعي العقار أول مرة..ووجدت نفسي أخرج من نفسي وتعتلي فسحة من التيه ..تيهي..أتسلق سحابة حياتي السوداء نازلا ..ولاأدري أين أنا .. ولما أدري ...؟ ووجدت نفسي آخد نفسي بالحضن إلى ينابيع الضياع راضيا ..وحدي في الظلمة ..في القاع مرهون بالإنكسار ..فلما أهتم؟ أتتبع في صمتي ..خمرة معتقة من أيام قليلة متشعبة عن سمرة منها لم تبلغ السواد ..عن حضن أمي الشحيح وبسمة أبي الفقيرة....ولم أستطع كفن فجيعتي..أخرج من نفسي بإرادتي ..أو بدونها أبذر حشائش اللاوعي لاغسل أغلال التفكير والعقل..لأطارد كوابيسي الصاخبة ..لأصرخ ...فيهم ..أن يد أبي منكسة بلاعلم....أن أمي نحرت كأضحية العيد ..أن أمي قربان في المعبد للظلام........................
وسكت ..ولم ترد د الأجواء صرخاته الأخيرة ..كأن الصدى استحى...ولم أقوى أنا أيضا على ترديدها ..سكت وتبخر في الأجواء عائدا إلى..........................................

ليست هناك تعليقات: